رغم الاستهداف: طهران تفشل في ترويض التيار الصدري
إعداد: مجاهد الطائي، باحث في الشأن العراقي/ ماجستير في العلوم السياسية
عكست أحداث المنطقة الخضراء الدموية والمواجهات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، آخر ما قام به التيار الصدري قبل إعلان زعيمه مقتدى الصدر انسحابه “النهائي” من المشهد واعتزاله العمل السياسي، 29 أغسطس/ آب 2022، أما عودة زعيم التيار بشكل ضمني إلى المشهد السياسي، تمثل بحرق وإغلاق مقار حزب الدعوة ومقار بعض خصومه الآخرين في 10 محافظات عراقية بعد اتهامهم بالإساءة لوالده المرجع محمد محمد صادق الصدر، (هذا عدا اقتحام وحرق السفارة السويدية على خلفية الإساءة للقرآن الكريم).
تشير هذه التحركات بشكلٍ واضح إلى ذهنية التيار وتعاطيه مع خصومه منذ مرحلة الإخفاق في استثمار انتخابات 2021، لا تزال معبأة وحاضرة ومترابطة بسياقها في ممارسة العمل السياسي رغم تجميد التيار لأشهر. خاصة إن الاستهداف الذي حصل للتيار الصدري خلال هذه الفترة الممتدة من اعتزاله للعمل السياسي وعودته بشكل غير مباشر عبر حرق مكاتب الأحزاب كان ضد بعض من أهم ركائز التيار الصدري الدينية والمتمثلة (باستقالة مرجع التيار كاظم الحائري الغريبة، والإساءة لوالده المرجع، والإساءة للقران الكريم).
وصلت رسائل التيار الصدري التي أراد إيصالها في الحدثين رغم استخدام العنف لهذه الغاية، وتمثلت بالظهور بمظهر الرافض لأعمال العنف التي حصلت والمحذر من الفتنة، وعلى أنه هو الضمانة لإيقاف العنف وهو القادر على ضبط اتباعه وايقافهم، وهذا يعني أن وجود الصدر كزعيم للتيار من جهة وللعراق من جهة أخرى، أنفع وأضمن لخصومه الذين يعملون على استهدافه وإضعافه كلما سمحت لهم الفرصة، وإن تياره صعب الانقياد لغيره ومن دون توصياته وتوجيهاته.
ضربات إيران وحلفائها لم تغير الصدر
تعرض التيار الصدري للعديد من الإخفاقات السياسية ومحاولات التصفية والإضعاف قبل وبعد إعلان زعيمه “اعتزال العمل السياسي” ونتجت معظم الإخفاقات السياسية نتيجة استهدافٍ ودفعٍ منظم لإعاقة تحويل المكتسبات الشعبية لسياسية، وتمثلت الضربة الأولى في منعه من تحقيق طموحه بتشكيل ما وصفها “بحكومة الأغلبية” وترك المحاصصة، وذلك بسبب إصرار خصومه على استمرار هذا العرف السياسي المقدس الذي يحافظون عليه أكثر من المحافظة على الدستور، وفتحت هذه الضربة التيار أمام سلسلة من تراجع الخطوات. أما الاستهداف الثاني فأتى برلمانيا بعد تضييق الحلول أمام الصدر وقيام تياره بإعلان الانسحاب والاستقالة من البرلمان رغم الفوز بالعدد الأكبر من المقاعد، وهو خطأ استراتيجي لا يزال يدفع التيار ثمنه إلى اليوم.
أما الثالثة فكانت سياسية “بخسارة” تحالفه مع أربيل من جهة والأنبار من جهة أخرى (البارزاني والحلبوسي)، حيث تضرر الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة بقيادة الحلبوسي من تحالفهما مع الصدر ودفعا – ولا يزالان – ثمن مساعي التيار وطموحه بحصر التمثيل السياسي للمكونات بهذه القوى الثلاثة الفائزة شيعيا وكرديا وسنيا، بعيدا عن مبدأ المحاصصة وتوزيع كعكة السلطة، ثم القفز من قارب التحالف البرلماني واتخاذ قرار الاستقالة منفردا، وترك حليفيه لخصومه الذين وجدوا في انسحاب الصدر فرصة لاستهدافهما وإضعافهما بعد واتهامهم بقيادة مؤامرة ضد المكون الأكبر، واستغفال التيار الصدري بتجاوز القيادة الشيعية لرئاسة الوزراء بالتوافق.
مثلت أحداث المنطقة الخضراء واستخدام العنف خلالها الضربة الرابعة للتيار عسكرياً، حيث خلقت حالة من التناقض لما يطرحه التيار من رغبة بالإصلاح وحصر السلاح بيد الدولة.
الانتكاسة الخامسة كانت إعلامية وأصابت الرأي العام، وذلك بعد تولد شعور بالإحباط الجماهيري ممن وضعوا ثقتهم بالتيار وصوتوا له دون غيره في الانتخابات، ثم ترك السلطة والوزارات والبرلمان ومؤسسات الدولة المهمة…إلخ لمن يصفهم “بالفاسدين والوقحين وحَمَلَة السلاح المنفلت والذين يعملون لأجندات خارجية”.
أما الاستهداف السادس والأكثر أهمية، فتتمثل بمجموعة من خطوات الحصار وقطع الجذور والعلاقات الدينية العقائدية للتيار والتي لم تنتهي حتى الآن، حيث بدأت بخطوة نادرة بإعلان مرجع التيار الصدري كاظم الحائري المقيم في إيران استقالته، ولم يكتفي بذلك بل أوصى اتباعه بتحويل تبعيتهم إلى المرجع الإيراني علي خامنئي الذي يتبعه معظم خصومه وينتقدهم على ذلك بشكل ضمني.
في ذات السياق، أصدر بعد فترة المرجع اسحاق الفياض – الذي تربطه علاقة بخصم الصدر، نوري المالكي – فتوى بمنع التقليد الابتدائي للمرجع الميت، ومثّل ذلك تهديدا لهويّة التيار الصدري الاجتماعيّة والدينية، ومنعت قسما من الصدريين من العودة بالتقليد الفقهي إلى السيّد محمد الصدر أو السيّد محمد باقر الصدر، مما يعني إنهاء الأثر الديني لآل الصدر، ومنع استمرار إرثهم الفقهي للأجيال المقبلة.
وهذا ما قطع الطريق أمام الصدر الذي كان يسعى لترميم الطوق الذي كسره الحائري باستقالته وفتحه المجال للصدريين باتباع أو تقليد مرجعيات أخرى دون الصدر الأب، فالصدر كان يسعى لاستخدام إرث والده في تيسير أمور الصدريين الذين فقدوا مرجعهم وفتح ذلك الباب لخصوم الصدر لتفكيك جمهور الصدر بين عدة مراجع.
وزاد من محنة التيار الصدر عقائدياً تحركٌ كان الأشد خطرا عليه، مع استهداف مكانة الصدر نفسها بشكلٍ كامل، عبر ظهور جماعة تطلق على نفسها ” أصحاب القضية” من ضمن التيار الصدري لتعلن بإن الصدر هو المهدي المنتظر، وهو إعلانً ينهي شخصية الصدر ضمن منتسبي المذهب الشيعي كونه يصب في خانة رغبات الصدر، الذي يمتلك طموحاً يسميه البعض بأن يكون ” حسن نصر الله العراق” أو أن يجمع بين المرجعية السياسية والدينية لاتباعه وللشيعة بشكلٍ عام، فهذا الإعلان استهداف عقائدي مدروس بعمق لإنهاء أية قيمة اعتبارية يتمتع بها الصدر. فلدى مقتدى طموح سياسي ديني لكن ليس من بينه المهدي المنتظر.
أدى تراكم الضغوط والإعاقات المذكورة أعلاه من قبل إيران، والإطار التنسيقي والقوى المتحالفة معهم، بعواقب أصابت التيار الصدري سواءً بالخسارة بالجانب المالي، أو عقائدية، أو سلطة، فقد خسر التيار الصدري ” حقوق” إدارة وجمع “الخُمس” الذي كان يرعاه الصدر كوكيل أو ممثل عن “المرجع الحائري” وتعطلت بذلك المؤسسات والمدارس الدينية التابعة للتيار، وفي الجانب السياسي والسلطة مع انسحابه من البرلمان وفقدانه لـ 6 وزارات من حصته وما فيها من نفوذٍ في الدولة ومؤسساتها، أو أموال ضخمة تجنيها القوى السياسية جميعا من كعكة السلطة والمحاصصة.
العمل خارج المظلة الإيرانية
نجحت إيران منذ سنوات في إقامة علاقات مع جميع الأطراف الشيعية في العراق رغم تناقضاتها، ودفعها وجمعها تحت مظلة واحدة، وبهذه الطريقة وإن لم يكن هذا الطرف أو ذاك يعمل وفق المرجعية الإيرانية إلا إنها كانت تمتنع عن العمل ضدها. وظهر الصدر كالطرف الأكثر صعوبة في الانضمام لهذه المظلة من بين القوى الشيعية إلا إنه لم يشكل تهديداً مباشراً إلى أن دخل عاملٌ جديد المعادلة التي حكمت هذه المظلة وتمثل باندلاع ثورة تشرين 2019، واغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، وولادة قوى سياسية من خارج منظومة الحكم، تميزت برفض النفوذ والدور الإيراني في العراق، وأنعشت ثورة تشرين الحس المتنامي لدى الرأي العام العراقي بشكل عام والشيعي بشكل خاص والجمهور الصدري على الوجه الأخص بضرورة خلق سياسة وطنية مستقلة ورافضة لتدخلات إيران.
نجحت القوى العراقية الولائية، بترويض قوى تشرين باستخدام أدوات السلطة القمعية والنفعية وأدوات الترهيب والترغيب، مع إشراكهم في منظومة الحكم وضمن المعادلة المسيطرة عليها من قبل الطرف الإيراني، لكن مع دخول القوى التي أفرزتها تشرين إلى مظلة النفوذ الإيراني، خرج التيار الصدري منها، ومثل هذا الخروج خطراً أكبر على القوى الحليفة لطهران من حراك قوى تشرين، فالقوى الولائية تبحث عن استقرار الحكومة واستمرار المنافع الاقتصادية وامتيازات السلطة بعيدا عن أي اضطرابات، لدرجة أنها أوقفت عملياتها ضد المصالح الأمريكية وحلفائها منذ وصولها للسلطة.
التيار الصدري: المُناكف المؤرق للقوى الولائية في المرحلة القادمة
خرج التيار الصدري من المظلة الإيرانية وهو يمتلك الإمكانات والقدرات والتنظيم والتحشيد والخبرة في السلطة مع وجود خطاب إعلامي ناقم وتستهويه المعارضة، وله جناح مسلح يحمي مصالحه من قوى السلاح، وزعامة لا تسير ضمن قواعد واضحة، ويصعب التنبؤ بما الذي سيقدم عليه، كل ذلك يجعل القوى الشيعية المتنفذة في السلطة والحكومة العراقية تخشى استفزازه بصورة مباشرة. وبحسب مصادر في التيار الصدري، نقلت بإن “السوداني عرض على التيار العديد من المناصب، إلا إن التيار رفض جميعها “، مشيرا إلى أنه “أرسل العديد من الرسائل لزعيم التيار الصدري لكن لم يجب على أي منها إلى الآن”.
عملت التيارات الولائية بصمت وسرية على ضرب وإضعاف التيار الصدري في فترة ما قبل تجميده وما بعدها، كما تعاملت معه بمنطق الاستفزاز لدفعه وتحفيزه على ارتكاب الأخطاء والتفاعلات الآنية الانفعالية، لكن يبدوا بإن تلك المرحلة ستنتهي مع ظهور بوادر عودة التيار للمشهد السياسي، واستمرار سمات وسلوك التيار وزعامته كما هي، مع فارق مؤكد بأن التيار ازداد خبرة وتجربة رغم إضعافه وتراجع نفوذه، لكن لم يُسجل النجاح لإيران وحلفائها في ترويضه وإعادته إلى المظلة الإيرانية إلى الآن.
زوال الأخطار عدا التيار
طوال المرحلة الماضية، كانت القوى السياسية والمسلحة الشيعية تنظر إلى الأخطار بسياقها الطائفي أو الإيراني أو السلطوي، كالذي كان يحصل مع رغبات الكرد بالانفصال وتشكيل دولة كردية، أو كالتي كانت تطرحها القوى السنية بتشكيل أقاليم المحافظات الغربية والشمالية على غرار إقليم كردستان، أو مخاطر تتعلق بالإرهاب وتوظيفه إقليميا وتهديد نظام الحكم الموالي لطهران.
ولقد زالت – وفق المؤشرات الحالية – جميع المخاطر على سلطة الأحزاب الشيعية الموالية لإيران محليا وإقليميا ودوليا، فالولايات المتحدة قللت اهتمامها بالعراق وغيرت من أدواتها في مواجهة إيران في العراق من المناكفة الشبه مباشرة للعقوبات الاقتصادية والحفاظ على القوى المعارضة لإيران مع عدم تشجيعها للمواجهة، كما تقوم واشنطن بإدارة وساطات للتفاوض مع طهران حول مشروعها النووي، وتعيش المنطقة أيضاً هبوب رياح مصالحات إقليمية – بين قطر والإمارات والسعودية ومصر من جهة، والسعودية وإيران وتركيا ومصر من جهة أخرى، كما يقوم العراق نفسه بإجراء وساطات مع بعضها الدول الخليجية – وقد كانت الخلافات والتنافس الإقليمي تنعكس بصورة مباشرة على العراق وتساهم في تغذية عدم الاستقرار السياسي والأمني.
لم يتبقى اليوم أي مخاطر كبيرة وواضحة على الأحزاب الحليفة لإيران محليا وإقليميا ودوليا سوى التيار الصدري، سواء على مستوى السلطة والنفوذ أو على مستوى المرجعية الدينية الذي سيزداد خطورة مع احتمالية موت المرجع الأعلى في العراق “علي السيستاني” وغياب الآليات الواضحة لاختيار بديل عنه، وسط صراع خفي بين من يعملون على سيادة المرجعية الفارسية على العراق وضرب مشروع إحياء إرث المرجعية العربية التي ترتبط بالمرجع الصدر الأب ومواجهة من يعملون على هدمها ومنع التيار الصدري من استغلالها سياسيا ودينيا.
أخيرا، لقد شكل خصوم الصدر “الإطار التنسيقي” حكومة محمد شياع السوداني بغيابه، وتقاسمت الأطراف المحلية كعكة السلطة ومنافعها وورثت حصة الصدر، كما وعقدت صفقات كبيرة مع شركات الطاقة العالمية بمليارات الدولارات، وتقوم بإجراء مفاوضات لعقد صفقات أخرى بملفات أخرى، كل ذلك سيجعل عودة التيار الصدري أصعب وأكثر خطورة على مصالح الأطراف المحلية والدولية، التي تقدر بالمليارات في ظل موازنة هي الأضخم في تاريخ العراق وتم تمريرها لثلاث سنوات دفعة واحدة، لكن كل ذلك سيعتمد على تعاطي خصومه معه ومدى خطورة عودة الصدر كطرف محلي عنيد ولا يمكن ترويضه للموافقة على توافقاتهم، خاصة وأن عودته ستسبب ضررا للجميع أو تقلل منافعهم أو تعطلها.
من جهته لن يتمكن التيار الصدري من الحفاظ على تجميد نشاطه السياسي لفتراتٍ أطول، فهكذا خطوة ستدفعه لخسارة كتلة كبيرة من أنصاره الذين لا ينحصرون فقط بمن يرونه مرجعية دينية، بل شخصية وطنية تحاول خلق توازن بين العلاقة مع إيران وبين المصالح العراقية الوطنية.