رامان .. مركز أبحاث يشق طريقه بين مراكز الشرق الأوسط
تغطية موقع عنب بلدي لإفتتاح مركز رامان للبحوث والإستشارات والمنشور بتاريخ 31/01/2023 والمُعد من قبل الإستاذة جنى العيسى
ويتضمن مقابلة مع مدير المركز بدر ملا رشيد
.شهدت السنوات الأخيرة حالة نشاط متزايد في مجال مراكز الدراسات والأبحاث، العربية عمومًا، والسورية على وجه الخصوص، وذلك استجابة للمتغيرات الإقليمية على جميع الأصعدة التي مرت بها المنطقة منذ بدء ثورات الربيع العربي
وخلال العقد الأخير، أنشئت عشرات مراكز الأبحاث التي صبت جل اهتمامها على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتنموي للمنطقة العربية عمومًا، وسوريا خصوصًا، وسط وجود كوادر متخصصة، وإمكانيات مادية ولوجستية دعمت عملها في مختلف الدراسات والأوراق البحثية.
وفي نهاية كانون الأول 2022، افتتحت مجموعة من الباحثين السوريين والعرب مركز “رامان للبحوث والاستشارات”، وفق رؤية تتمثل بـ”تقديم مساهمة إيجابية في الوسط البحثي بالمنطقة من جهة، وإعداد مقاربات وتصورات لحل الأزمات المستعصية من جهة أخرى”.
يهدف المركز، بحسب ما يعرف عن نفسه في موقعه الإلكتروني، للوصول لأن يكون مرجعًا رئيسًا وموثوقًا في الدراسات والتحليلات الموضوعية في قضايا الشرق الأوسط.
أصدر المركز منذ افتتاحه ورقة بحثية ضمن سلسلة الأوراق البحثية في الشأن السوري بعنوان “المجلس الوطني الكردي– استعصاء الحركية السياسية”، نوقشت فيها إشكالية الفاعلية السياسية لـ”المجلس الوطني الكردي”، ونقاط القوة والضعف ضمنه، إضافة الى علاقته الشائكة مع “الإدارة الذاتية” لشمال شرقي سوريا.
كما صدر عنه، ضمن سلسلة الأوراق البحثية في الشأن العراقي وإقليم كردستان العراق، ورقة بحثية بعنوان “غاز إقليم كردستان بين الموازين المحلية والإقليمية”، إذ سلّطت الضوء على ملف الغاز في إقليم كردستان العراق في ظل التطورات العالمية الأخيرة والغزو الروسي لأوكرانيا، واحتمالية اعتباره بديلًا للغاز الروسي بالنسبة لأوروبا، وحللت التأثير السلبي للخلافات السياسية الداخلية في العراق على تطوير قطاع الغاز.
شمال شرقي سوريا أولًا
مدير ومؤسس مركز “رامان”، الباحث المتخصص في الشأن الكردي بدر ملا رشيد، أوضح في حديث إلى عنب بلدي، أن المركز ينطلق من تغطياته للقضايا وتناوله للإشكاليات البحثية من عدة محددات، ولديه أهداف للتوسع المدروس سواء فيما يتعلق بالنطاق الجغرافي أو التفصيلي في القضايا والمسارات التي سينشط فيها لاحقًا.
وتتمثّل تلك المحددات بالبحث في قضايا لم يجرِ تناولها سابقًا، وعبر هذا المحدد سيحاول المركز أن يغطي جزءًا مهمًا من العناوين التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها، ويليه محدد يتعلق بعملية تطور المركز ذاتيًا وموضوعيًا، بحسب الباحث، موضحًا أن الانطلاقة حتى الآن مبنية على جهود كادر يزيد من طاقته الإنتاجية في البحث لبناء هوية ذاتية ليتمكن في المستقبل من توسيع نطاقه البحثي.
وبالنظر إلى هذه المحددات، أشار بدر ملا رشيد إلى أن مركز “رامان” سيكون تركيزه خلال المرحلة الحالية على نطاقين، أولهما مناطق شمال شرقي سوريا، بالإضافة إلى عناوين بحثية في مناطق جغرافية أخرى من سوريا، كـ”تطور التجربة النقابية في سوريا، وكيفية سيطرة حزب (البعث) على اتحاد النقابات”، بينما سيكون نطاق التركيز الثاني حول قضايا عراقية وطنية كـ”المرجعيات الدينية في العراق”.
ويرى ملا رشيد أن الحقل البحثي في هذه المنطقة يعاني فراغًا كبيرًا بمعظم المسارات التي وضعها المركز ضمن خارطة أهدافه المرحلية، وجاء ذلك نتيجة طبيعة الأنظمة الشمولية التي حكمت سوريا والعراق، ولم تسمح بالتطور الفكري الذاتي، ولم تسلّط الضوء على القضايا المتعلقة بنشوء الدول الوطنية وما رافقها من عملية بناء، والتي كانت في معظمها مبنية على أسس إقصائية.
وأضاف الباحث أن الفراغ في الحقل البحثي يتعلق أيضًا بالواقع الذي فرضته عملية إسقاط النظام العراقي السابق عام 2003، أو الثورة السورية 2011، وما رافق البلدين من انهيار في المنظومات السابقة وعدم وجود الوقت والكوادر الكافية التي تستطيع بناء قواعد فكرية ومعرفية يتم عبرها إنشاء عقود اجتماعية جديدة، وإنشاء آليات للحوار وتقوية السلم الأهلي عبر بناء معرفة مشتركة ببديهيات الحكم الديمقراطي والتشاركي والحقوق الإنسانية الفطرية.
عربيًا.. هل تحتاج الساحة؟
يعرف مركز “رامان” عن نفسه بأنه مركز أبحاث واستشارات، يهتم بدراسة وتحليل الأحداث والظواهر السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الشرق الأوسط.
وفي ظل انتشار عشرات المراكز البحثية التي تعنى بشؤون الشرق الأوسط، تثار التساؤلات حول إمكانية أن يؤدي توسع نطاق التغطية الجغرافي للمركز إلى تشتيت جهوده، وسط كثرة قضايا المنطقة المحتاجة للمتابعة.
بينما يعتقد الباحث بدر ملا رشيد أن المنطقة لا تتمتع بوجود كثير من المراكز البحثية التي تعنى بالشرق الأوسط كنطاق للتركيز، إذ توجد مراكز عالمية خارج المنطقة معظمها أُسس في دول خارج الشرق الأوسط، أما المؤسسات التي شُكّلت وانطلقت من الشرق نفسه عددها قليل، لذا هناك فراغ كبير لا يزال يحتاج إلى العديد من المؤسسات لتقوم بملئه، بحسب رأيه.
وفيما يخص النطاق الجغرافي، دائمًا ما يكون أمام المراكز البحثية خياران، أولهما الاختصاص في التركيز على بقعة جغرافية أو دولة أو مسار بحثي محدد، وثانيهما التوسع في دائرة البحث والجغرافيا والمكونات السياسية.
وبرر ملا رشيد اختيار مركز “رامان” التوجه للتخصص في قضايا الشرق الأوسط عمومًا “وهو هدف واسع”، بأن تحقيق الهدف يمكن ببناء تراكم معرفي في القضايا الوطنية أولًا، ومن ثم الانطلاق لقضايا أوسع، فمنطقة الشرق الأوسط بمكوناتها المجتمعية أو بدولها الوطنية تمثّل مرتكزًا ومحورًا مهمًا في السياسة العالمية، إلا أنها لاتزال تعاني غياب ممارسة دور فعال في السياسة العالمية نتيجة انعدام توافقات شاملة بين دولها بحيث تتمكن من بناء استقرار طويل الأمد.
وأكد الباحث أن بداية الطريق ستحمل بعض الصعوبات والتحديات الكبيرة من عدة نواحٍ، منها الحجم الكبير للقضايا الشائكة في المنطقة، أو كيفية المعالجة البحثية للإشكاليات المطروحة على طاولة الدراسة والبحث، معتبرًا أن هذه الصعوبات هي بالأساس جزء رئيس من تطور المراكز البحثية، فهي التي تمكنها من بناء هوية ذاتية وفريق بحثي متمكن، وعلاقات متماسكة مع أطراف مختلفة.
تعد المراكز البحثية المهتمة بالشأن السوري ظاهرة جديدة، وأداة معرفية لا يزال المجتمع في طور تقبّل ثقافتها والتعرّف إليها، كي تُسهم في المستقبل بتشكيل الوعي الجمعي للأفراد.
وحول معايير اكتساب المصداقية للمراكز البحثية الجديدة، أوضح مدير ومؤسس مركز “رامان”، الباحث المتخصص في الشأن الكردي بدر ملا رشيد، أن عمل المراكز البحثية يتسم بصعوبات كبيرة وتحديات متعددة خاصة في الدول والمناطق التي تشهد صراعات متعددة ومتداخلة كمنطقة الشرق الأوسط.
وتنشأ مصداقية المراكز، برأي الباحث، عبر عدة خطوات، منها قيام المركز بالنشاط المتوقع منه على محاور، منها ما يتعلق بالواجبات المعرفية والفكرية عبر تناوله لقضايا مهمة سواء بالنسبة للباحثين والأكاديميين، أو بالنسبة للمجتمعات التي من المفترض أنه خرج من رحمها، وأن يكون هذا التناول بلغة قابلة للقراءة من أطراف عدة على اختلاف أيديولوجيتها ومواقفها السياسية.
كما يجب على المخرج البحثي أن يمر عبر عملية متواترة ومستمرة ومتماسكة، إلى جانب أن يعتمد على مصادر متعددة لتوثيق أطروحاته البحثية، ويقوم ببناء شبكة علاقات متنوعة المرجعيات والخلفيات الفكرية، ويجب أن يصقل المخرج البحثي أو ورقة السياسات بعد مرورها بكل هذه الخطوات بمنهجية بحثية أكاديمية تعطي المادة البحثية ما تستحقه من احترام وتقدير في عين القارئ، إذ يجب على المراكز البحثية والعاملين في المجال البحثي أن ينظروا بهذه العين إلى القارئ حتى يتمكنوا من كسب ثقته وارتباطه مع مخرجات المركز أو توصياته.
وبحسب ملا رشيد، سيجري العمل في مركز “رامان” على كسب ثقة وارتباط القراء وصناع القرار بمخرجات الأوراق البحثية عبر كل ما ذكر ومن خلال خطوات عملية باتجاه تقديم استشارات بناءة وموضوعية، وخلق بيئات حوارية تحاول الجمع بين الأفكار المختلفة للوصول لمستوى المساهمة في تطوير العقود الاجتماعية والعقل الجمعي لمنطقتنا.
ويرى الباحث أن الاختلافات العرقية والدينية والثقافية في الشرق الأوسط هي أكبر خزان لأفكار وأطروحات جديدة في مسار العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حيث يجب هنا البحث من جديد عن قواعد إدارية وحوكمية تجمع بين الروابط التاريخية لهذه المجتمعات مع تقديم تصورات مستقبلية تستطيع احترام تطلعات شعوب المنطقة مستندة إلى الحوار البناء.
يجب الانتباه إلى فصل السعي للمصداقية عن الشهرة، فمقياس المصداقية ليس بالضرورة وفق مدى الشهرة، فالاستشارات والتوصيات الفعالة هي التي تتم بهدوء وبصورة تأخذ بعين الاعتبار مصالح فواعل عدة، وليس مثلًا عبر التركيز على إحضار شخصيات بارزة أو مشهورة إلى البرامج وإنفاق موارد هائلة دون لمس قضية حقيقية تتعلق بمشكلة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية مأساوية.مدير و مؤسس مركز “رامان للبحوث والاستشارات”، بدر ملا رشيد. |
وفي وقت سابق، ناقشت عنب بلدي في ملف خاص بعنوان “مراكز الأبحاث.. خطوة لتفكيك العُقد السورية” جهد مراكز الأبحاث التي اختصت بدراسة الشأن السوري، والتي نشأت خلال العقد الأخير، وجدوى عملها في التأثير على الرأي العام وصنّاع القرار.
اقرأ أيضًا: مراكز الأبحاث.. خطوة لتفكيك العُقد السورية
وخلص الملف إلى عدة نتائج، أبرزها أن معايير ضبط العمل البحثي تختلف من طبيعة عمل مركز إلى آخر، فالعملية البحثية في الإطار الأكاديمي، والتي تعنى بالنظرية والمنهجية الصارمة، تختلف عن العملية البحثية في إطار مراكز التفكير والدراسات، كما تختلف تلك المعايير بتفاصيلها أيضًا بحسب مدارس البحث الغربية والشرقية، وبحسب طبيعة الأبحاث من حيث النوع أو الكم، وحتى إن كانت المعايير العامة تتقاطع في مكان ما، لكن لكل اتجاه خصوصيته ومعاييره.
ومن حيث التأثير في الجمهور، ليست المراكز على نفس السويّة، كما لا يمكن قياس تأثيرها على الأفراد بالعموميات، لأن الأفراد العاديين هم ليسوا الجهة الرئيسة المستهدفة من قبل تلك المراكز، وإنما الشريحة المستهدفة بشكل أساسي هي أولئك الذين يشاركون في صنع القرار، والمؤسسات الحكومية أو الخاصة التي تمتلك فعالية مباشرة على أرض الواقع.