#تقدير موقف

أدوات إيران الناعمة والعنفية لتحقيق محاولتها للتمظهر كقائد للعالم الإسلامي

الصورة مصممة من طرف “قناة العهد” التي تملكها وتشغّلها حركة «عصائب أهل الحق»

مقدمة

بعد تبلور مؤشرات وصول النفوذ الإيراني لذروته في الشرق الأوسط من خلال المستويات العليا التي تستطيع إيران بها التأثير على القرار السياسي، والاقتصادي، والأمني العسكري في أربعة دول على الأقل، خطت إيران خطواتٍ أسرع في تثبيت هذه الإمكانات لإحداث تغييرات في البنية الثقافية والدينية، سواءً في مجتمعات الدول التي وقعت تحت سيطرتها، أو ضمن مجتمعات الشتات الإسلامية التي تبحث دوماً عن دولةٍ ترفع الشعارات الإسلامية لتكون سنداً لها عبر ما تمثله الدولة من تمثيلٍ سياسي.

في عملية البحث عن التضخم الهائل الحاصل في تمظهرات السيطرة الإيرانية، وبالأخص شعارات ورايات الإسلام السياسي الشيعي خلال السنوات الماضية، وبشكلٍ مباشر خلال آخر ثلاثة أعوام، تظهر الولايات المتحدة كأحد أهم الأطراف التي ساهمت سياساتها في إدارة الملفات الأمنية والعسكرية في المنطقة، في الإسراع وترسيخ محاولات إيران للتصدر كدولة تحاول فرض نموذجها كواجهةٍ للمسلمين، في ظل التهاون الحاصل مع الأنشطة الإيرانية في بناء شبكات واسعة من الحلفاء في عدد من الدول التي تتمتع واشنطن فيها بمستويات مختلفة من السيطرة والنفوذ.

تمثلت سياسات واشنطن بعدة تدابير استراتيجية وما تمخضت عنها من نتائج وتبعات، مثل غزو أفغانستان عام 2001، الذي أدى لمقتل أكثر من 2300 جندي أمريكي، والمئات من الجنسيات الأخرى، لكن الشعب الأفغاني تحمل العبء الأكبر من الخسائر، حيث تشير بعض التقارير إلى أن أكثر من 60 ألفا من أفراد القوات المسلحة الأفغانية وأكثر من 111، ألف مدني قتلوا في الصراع فقط من 2009، حتى إنهاء التواجد الأجنبي في أفغانستان، كما أدت عملية إسقاط النظام العراقي السابق عام 2003، وتبعاته من غيابٍ في الأمن والحكم الرشيد، لتشويه صورة الولايات المتحدة كدولة لا تتمكن من إدارة مرحلة ما بعد الحرب، وهي مظلوميات استطاعت إيران استغلالها لتصويرها إلى جانب حوادث أخرى مثل اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في يناير 2020، كحربٍ أمريكية على الدولة الإسلامية الوحيدة التي تعمل على مواجهة واشنطن وإسرائيل وتتزعم ” محور المقاومة الإسلامية”، أو ضد الدول الخليجية والإسلامية وبالأخص السعودية، وهي لوحة رسمت عبر أذرع طهران الإعلامية والعسكرية العابرة للحدود.

أخيراً أظهرت الحرب الأخيرة الحاصلة في غزة التي حدثت نتيجة عملية ” طوفان الأقصى” المنفذة من قبل حركة حماس، مدى تغلغل صورة صانع القرار الإيراني في ذهنية المجتمعات والفواعل الأخرى المحيطة بإيران وحول العالم، فمع بدء عملية ” طوفان الأقصى”، تم توجيه أصابع الاشارة لها بمباركة التخطيط والتجهيز للعملية، ودعمها بالتقنيات اللازمة، ورغم نفي إيران الرسمي لـ انخراطها في العملية، وتجنب ” حركة حماس ” ذكر إيران، إلا إن كافة المنطلقات الواقعية في تحليل الفواعل ما دون دولة، تؤكد عدم إمكانية قيام فاعل منها بعملية من هذا النوع دون اخذ الموافقة من الداعم الرئيسي لها، وهي في هذه الحالة إيران، وتعتبر هذه العملية من النادرة في صنفها من نواحي التخطيط والتجهيز الأمني والتعبوي العسكري، ومن ناحية الأهداف السياسية التي اعلنتها ” حماس” والمتمثلة بإنهاء خطوات التطبيع، والتي كانت على باب أن يتم تتويجها بتطبيع العلاقة بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل.

مرة أخرى تجنبت الولايات المتحدة حتى الآن اتهام إيران بالوقوف وراء العملية، وهذا التجنب المصحوب بنفي مبني على عدم الحصول على أية معلوماتٍ في هذا الخصوص، يصب مرة أخرى في صالح تعزيز الصورة الذهنية لنفوذ وقوة إيران، وتمثيلها لمحور مقاومة التمدد الغربي، والاحتلال الاسرائيلي للأقصى المقدس. 

أسباب ذاتية وموضوعية تستغلها إيران لتقوية قبضتها على المجتمعات الإسلامية

انقسمت الأسباب التي أدت لبروز وتعزيز رغبة إيران كـ ” ممثلة للعالم الإسلامي” إلى موضوعية ناتجة عن سياسات واشنطن في العالم والمنطقة مع الدول المرتبطة بسياسات الولايات المتحدة، بالأخص ما حصل من تغاضي أمريكي عن مالات غزو العراق، الذي فتح الباب بمصراعيه أمام إيران لزيادة نفوذها السياسي والأمني في عدة دول انطلاقا من العراق، وعبر ميليشيات شيعية تلقت دعما أمريكيا سواء بتوفير الغطاء الجوي في قتالها ضد تنظيم الدولة، او بالسماح بفتح مخازن مؤسسات الدولة العراقية لتسليح وتجهيز تلك الميليشيات التي باتت من بين اهم أذرع النفوذ الإيراني، بالإضافة لسياسة التخلي عن الحلفاء التاريخيين في الخليج العربي كما حصل مع المملكة السعودية في مواجهة الهجمات بالصواريخ البالستية على المدن والمنشأة الاقتصادية الاستراتيجية في المملكة.

إلى جانب عوامل ذاتية وتتمثل بشكلٍ رئيسي بتخلي معظم الدول ذات الدور الريادي في المحيطين العربي والإسلامي عن أدوارها في قضايا العرب والمسلمين الأساسية، كالموقف الخليجي من واقع السنة بالخصوص والعراق بالعموم، إلى جانب الحرب السورية وما شهدته المواقف العربية من تيه عام بما يتعلق بالمعارضة السورية وتوحيدها، أو ما حدث في اليمن من سيطرة للحوثيين، ولبنان من توقف الدولة بشكلٍ كامل لعدة سنوات، وما حصل خلال السنوات الماضية من تغيير سلم أولويات السياسة الخارجية في دول مجلس التعاون الخليجي، وبالأخص في ملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

فاستطاعت إيران استغلال موقعها الجيوسياسي كدولة تمتد على مساحة جغرافية شاسعة ومهمة للأمن الإقليمي والدولي، فتشترك بحدود بحرية مع ثماني دول في الخليج العربي وخليج عُمان، وهي المنطقة التي بسطت فيها طهران نفوذا قوياً للتحكم بمضيق هرمز البحري بأهميته الاستراتيجية في موضوع نقل الطاقة إلى العالم، هذا إلى جانب ما تمثله حدود إيران الغربية والشمالية مع أفغانستان وأرمينيا وأذربيجان من أهمية استراتيجية في ملف الأمن والطاقة العالمي.

عامل آخر تمثل بأن إيران ورغم تبنيها دستورياً المذهب الشيعي الإثني عشري، وعملها على تصدير فكر إسلامي سياسي “شيعي”، إلا إنها تدعم حركات وجماعات سنية من أفغانستان وحتى فلسطين، ودول أفريقيا بهدف كسبها كقوة للتأثير سواءً في الشؤون الداخلية للدول المنافسة أو لربطها بالمنظومة المذهبية الإثني عشرية، وهي سياسة بدأت منذ نجاح آية الله الخميني في اسقاط نظام الشاه الحليف للولايات المتحدة في عام 1979.

تمثل هذه العوامل مجموعة من قواعد القوة وأسبابها بما يكفي ليدفع القيادة في إيران للتفكير وتنفيذ خطوات السيطرة على تمثيل المجتمعات الإسلامية، ولتنافس وتزاحم الدول التي تمثل قيادة العالم الإسلامي تقليدياً، كالمملكة العربية السعودية، التي تحاول قيادتها الانخراط في قيادة نظام إقليمي جديد، تكون الريادة بناءً على الإرث التاريخي وتواجد المقدسات الإسلامية الدينية خياراً ثانياً، مقابل تعزيز القوة بناءً على الاحتياطيات الضخمة من موارد الطاقة والقدرة على التحكم في أسعار السوق العالمية.

الثورة الإسلامية في إيران: إعلانٌ لسلطة الإسلام السياسي الشيعي

اصطدمت هذه التوقعات كلها بواقع المشروع الذي تبناه قائد الثورة، وصرح به علنا بأنّ “طريق القدس يمر من كربلاء”، وهو ما بات يعرف بمشروع “ولاية الولي الفقيه” في واجهته الدينية، أو مشروع “تصدير الثورة” في واجهته السياسي، المعلن عنه في الذكرى الأولى لنجاح الثورة.

تبنت إيران منذ نجاح “الثورة الإسلامية” في فبراير/ شباط من العام 1979، بقيادة آية الله الخميني سياسة معلنة في عدائها للولايات المتحدة من خلال شعارات “الموت لأميركا أو الشيطان الأكبر”، وهي السياسة التي جذبت إليها عواطف العرب والمسلمين من الذين ضاقوا ذرعاً بازدواجية السياسة الأميركية، وانحيازها المعلن إلى جانب إسرائيل خلال الحروب التي امتدت بين البلدان العربية وإسرائيل من 1948 حتى 1973، كما إن إعلان أول جمهورية إسلامية أشعل لدى المجتمعات المسلمة حتى السنية منها مشاعر ظهور قيادة سياسية للإسلام لأول مرة منذ سقوط السلطنة العثمانية.

ومشروع ولاية الفقيه عبارة عن “نظرية يعتقد بها فقهاء المسلمين الشيعة” بضرورة وجود “فقيه عادل عالم جامع للشرائط ينوب عن الامام “الغائب”، أي الإمام المهدي الذي يعتقد المسلمون الشيعة “بأنه الامام الثاني عشر والأخير من أئمة أهل بيت نبي الإسلام محمد، وأنهم ينتظرون ظهوره ليحكم الأرض بالعدل. وفي هذا الإطار تعتمد إيران نظام حكم خاص بها “يقرّ بنظام “ولاية الأمر والإمامة لتحقيق قيادة الفقيه جامع الشرائط”، كما جاء في ديباجة الدستور الإيراني الذي أوكل في المادة الخامسة “ولاية الأمر وامامة الامة بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير”.

وفي الجانب السياسي، تتبنى إيران مشروعا تحت عنوان “تصدير الثورة الإسلامية” بواجهته السياسية بالاستناد على الواجهة الدينية المذكورة أعلاه بمسمى “ولاية الولي الفقيه” لفرض نفوذها الإقليمي وهيمنتها على جغرافية سُنيَّة تمتد إلى “شواطئ البحر الأبيض المتوسط ،” لتأمين العمق الاستراتيجي لأمنها القومي، من خلال دعمها لمجموعات الولي الفقيه للسيطرة على هذا النطاق الجيوسياسي الشاسع، انطلاقا العراق وسوريا ولبنان ، ومن اليمن للسيطرة على بحر العرب ، وباب المندب مستغلين سيطرة أحد أهم أذرعهم المعروفة باسم جماعة أنصار الله على العاصمة صنعاء، ومدن أخرى منذ العام 2014. وتلتزم معظم مجموعات التشيع السياسي المسلحة بسياسية “ولاية الولي الفقيه” التي تلزمها الدفاع عن إيران حتى لو تعلق الأمر بمواجهة عسكرية مع بلدها الام، ومن أكثر هذه المواقف وضوحا ما أعلنه أمين عام حزب الله/ النهضة الإسلامية، واثق البطاط، الذي يقود جيش المختار، من أنه “سيقف إلى جانب إيران في حال نشوب أيّة حرب محتملة بين العراق وإيران”.

أدوات إيران لتعزيز بسط سيطرتها على العالم الإسلامي: الأدوات العنفية

رغم تحول الجمهورية الإسلامية في إيران لمحرك رئيسي للميليشيات الشيعية في الشرق الأوسط والداعم الأكبر لها، وحتى لميليشيات في أمريكا اللاتينية، وكانت بداية النشاط الإيراني العابر للحدود ” عسكرياً” في عام 1982، حيث أرسل الحرس الثوري الإيراني مجموعات من قواته إلى لبنان لدعم جماعة حزب الله الشيعية، ومنذ ذلك الحين أصبح ناشطًا في دعم الحركات والمنظمات الشيعية وأحياناً السنية في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، أبرزها الجماعات الفلسطينية الإسلامية المسلحة والحشد الشعبي العراقي وجماعة أنصار الله اليمنية، وحزب الله اللبناني وعشرات الميليشيات الشيعية التي تنشط في سوريا والعراق ودول أخرى.

استفادة إيران من الاحتلال الأمريكي للعراق وبالأخص فيما يتعلق بتعزيز نفوذ المجموعات الشيعية المسلحة المرتبطة بها، وإضفاء الصبغة الشرعية عليها بموجب قرار رئيس سلطة الائتلاف المدني، السفير بول بريمر القاضي بحل الجيش العراقي والأجهزة الأمنية، وإعادة بناء قوات جديدة من خلال دمج مقاتلي الميليشيات في وزارتي الداخلية والدفاع.

واستفادت إيران من انحلال الجيش العراقي، ولاحقاً انهيار المنظومة الأمنية في سوريا والعراق، في تقوية نفوذها ورعاية مصالحها في الدول الأخرى بالاستناد على فواعل ما دون الدولة، وغير حكومية، بالأخص بعد نجاح تجربة دعم حزب الله بالاعتماد على أقلية شيعية في وسط أكثرية سُنية، الذي بات يتحكم بالقرار اللبناني، وهو بمثابة دولة داخل الدولة اللبنانية، أو أنه الدولة ذاتها، وفي مرحلة تثبيت واقع وجود أطرافٍ تنافس الدولة، تقوم بالانتقال لخطوة المشاركة في الحكم وبالنهاية السيطرة على آليات صنع القرار بشكلٍ كلي، وفي هذا الإطار وصل عدد الميليشيات المرتبطة بإيران بشكلٍ مباشر في سوريا والعراق إلى ما يزيد عن 115، تتحكم بالحكم في العراق، وبنسبة هامة من الجهاز الأمني والعسكري في سوريا.

ويؤشر ارتباط المجموعات الشيعية المسلحة بنظام الولي الفقيه إلى زيادة النفوذ الإيراني في البلدان المستهدفة بهذه المرحلة من مشروع تصدير الثورة بشكل يعزز حالة الانقسام الطائفي المجتمعي بصورة أكبر، إذ انه يعني تغليب المصالح الإيرانية على المصالح الوطنية.

السيطرة عبر الأدوات الناعمة

تعمل إيران على عدة مستويات في هذا المجال معتمدة على تدعيم ثلاثة أسس محورية لتحقيق مشروعها عبر مئاتٍ من المنظمات الخيرية والتعليمية والحسينيات والمنصات الإعلامية وغيرها، وهذه الأسس تتمثل بـ؛

سياسياً: تظهر ملامح نظرية إيران الدينية المعلنة لتسويغ استراتيجيتها: عبر ترويجها لهدف تحقيق وحدة الأمة الإسلامية وإخراجها من “تحت سيطرة ونفوذ المستعمرين، والدول العميلة له، وفق ما جاء في كتاب “الحكومة الإسلامية” لآية الله الخميني، بتأسيس دولة تحقق الوحدة والحرية للشعوب الإسلامية عبر إسقاط الحكومات الظالمة والعميلة، ومن ثم إقامة الحكومة الإسلامية العادلة التي تكون في خدمة الناس. ووفق اطروحاته فإن هذه هي الوظيفة التي يجب على المسلمين في كل بلد من البلدان الإسلامية القيام بها، والوصول بالثورة السياسية الإسلامية إلى النصر”، وهذه المسوغات هي تدخل معلن بالشؤون الداخلية للدول الإسلامية، وتحريض واضح للشعوب الإسلامية على حكوماتهم.

عقائدياً: ينصب نشاط طهران السياسي في سعيٍ دؤوب لقيادة العالم الإسلامي بتوجيه الأنظار من مكة المكرمة، إلى مدينة قُم العاصمة الروحية لإيران بناءً على ما أورده محمد جواد لاريجاني في كتابه “مقولات في الاستراتيجية الوطنية” الصادر في ثمانينيات القرن الماضي، حيث طرح فيه نظرية “أم القرى” التي ترمز إلى مكة المكرمة كما اسماها القرآن الكريم، ووفق النظرية فإنه ينبغي تحويل “قُم الإيرانية إلى أم القرى” لتتحول إيران إلى “دولة المقر للعالم الإسلامي”، كما ينبغي ان يكون “ولي أمر المسلمين هو الولي الفقيه الذي يتولى الحكم في إيران”. لذلك فعلى دول الأمة الإسلامية وشعوبها الحفاظ عليها بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، للحفاظ على النظام الكامل للحكومة الإسلامية، والذي يشمل كل أراضي الدولة الإسلامية الواحدة، والتي بسببها تشكلت دولة أم القرى التي ستقود هذه الأمة”.

من أجل تحقيق نظرية أم القرى وتجسيدها أمرا واقعا، تنظر إيران إلى السعودية بأنها مركز ثقل العالم الإسلامي، وحيثما ارادت زعامة هذا العالم لابد من العمل على إضعاف السعودية أو المحور العربي الإسلامي لتحقيق الطموحات الإقليمية باعتماد القوة التقليدية وتشجيع حركات المعارضة الشيعية، وتبني دعمها بكافة الوسائل المتاحة وتنمية قدراتها البشرية والعسكرية عبر تأسيس أحزاب تناضل بجناحين سياسي وعسكري، على غرار تجربتها الناجحة في لبنان ولاحقاً في العراق واليمن، مع المزيد من الدعم للشبكات الإيرانية المحلية التي تتلقى الدعم والتوجيه من الحرس الثوري الإيراني.

مذهبياً: فسعت إيران للاستفادة من هويتها الشيعية، بتقديم نفسها أمام عموم شيعة العالم بأنها هي من تجسد حقيقة الإسلام في التوفيق بين السلطتين الدينية والدنيوية، وأنها هي الوصي عليهم وأنها هي من ترعى مصالحهم وتدافع عن المظلومين منهم. وقد برزت محاولات بناء نفوذٍ إيراني بهوية الإسلام الشيعي منذ العام 1979، في المنطقة العربية وآسيا الوسطى وجنوب آسيا، عبر تبني ودعم الشيعة في معظم هذه الدول التي في عمومها تتبنى أنظمة حكم علمانية، رغم ان بعض دساتيرها تشير الى ان القران الكريم مصدرا او المصدر الأساسي أو الوحيد في التشريع.وتعد مناسبة عاشوراء أهم المناسبات الدينية لدى الشيعة والتي تحيي ذكرى مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب، حفيد النبي محمد والذي يعتقد الشيعة أنه قُتل ظلما.

يوم القدس: مصادرة قضية المسلمين المحورية (فلسطين)

تقيم إيران في آخر يوم جمعة من شهر رمضان في كل عام احتفالات تحت مسمى “يوم القدس” في مدنها الكبرى وترعى احتفالات أخرى في عدد من دول العالمين العربي والإسلامي لحشد الرأي العام اتساقا مع شعارات “إزالة إسرائيل” وتدمير إسرائيل وحرق إسرائيل.

تعتقد إيران أن تبني خطاب إزالة إسرائيل او تدميرها كفيل بجذب المزيد من التأييد لمشروعها العابر للحدود طالما أنها تضع قضية القدس على رأس أولويات خطابها التوعوي والإعلامي، مستفيدة من تراجع الخطاب العربي والإسلامي الرسمي والشعبي المؤيد للفلسطينيين، على اعتبار أن فلسطين دولة عربية إلى جانب كونها إسلامية، وأن المسلمين السنة في العالم يشكلون أكثر من أربعة أخماس المسلمين بكل طوائفهم، ويشكل الشيعة نحو 15 إلى 20 بالمائة من مجموع المسلمين في العالم، وفق تقديرات غير رسمية.

تبرز أهمية “يوم القدس ” بشكلٍ متزايد ضمن “الفصل الجديد من الإستراتيجية الإيرانية لحفظ وتعزيز مواقعها المكتسبة على مدى العقود الماضية بغرب آسيا، وهو فصلٌ جديد لأنه هناك احتمالات أن تطرأ تغييرات على النهج المعتاد بمقتضى نصوص اتفاق بكين القاضية بالامتناع “عن التدخل في شؤون الدول الأخرى”، هذا المبدأ سيفرض على إيران الامتناع رسمياً عن مد يدها إلى دواخل البلدان العربية، لكنها ستستعيض عنه بعنوان أكثر ربحية يسهل تبريره، وهو دعم المناضلين ضد الاحتلال الإسرائيلي. وتسهل مهمة إيران في هذا المجال الحكومة الإسرائيلية الراهنة وسياسات من سبقها من الحكام”.

“الغطاء الفلسطيني هو ما سيوفر للإستراتيجية الإيرانية الإقليمية الجديدة تبريرات حركتها ويجعل من أدوات إيران في الإقليم قوى حية للتحرر الوطني ومواجهة الاستعمار، وهو الذي سيسمح لها بالقول إنها باستعادة علاقاتها الطبيعية مع دول الخليج العربي ستلتزم مقتضيات اتفاق بكين لتحاول الذهاب بعيداً في اختراق العالم العربي من الباب الذي يشغله، القضية الفلسطينية“. ويعزز موقف إيران في هذا الطرح الحرب الأوكرانية والتعاون الحاصل بين دول شرق آسيا في عملية البحث عن تشكيل قطبٍ جديد.

ثمار النشاط المذهبي العابر للحدود في أوربا

بدأت تتشكل في أوروبا تجمعات إسلامية في مرحلة الاستعمار واللاحقة له بالأخص بعد الحرب العالمية الثانية مع حاجة أوروبا إلى يد عاملة لإعادة الإعمار. وزادت كثافة هذه المجتمعات مع توافد المهاجرين من مناطق مختلفة، مثل العراق وإيران وجنوب آسيا. وفيما يخص الشيعة الإثنا عشرية تسببت أحداث مثل الثورة الإيرانية عام 1979، وشخصياتها المؤثرة كآية الله الخميني التي أحدثت تأثير كبير في تعريف الناس بالأفكار الشيعية وتعزيز الاهتمام بها، وهذا ما أدى إلى طرح أسئلة متنوعة بين الشباب المسلم حول المذهب الشيعي، بدءًا من المفاهيم الدينية وصولاً إلى قضايا اجتماعية وعدالة ومساواة. كما أدت حرب العراق عام 2003، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية عام 2014، والأوضاع غير مستقرة للشيعة في بعض الدول العربية إلى زيادة تدفق الشيعة إلى أوروبا.

تطورت الجاليات الشيعية في أوروبا خلال العقود الأربعة الماضية ونشطت بشكل متسارع، واستفاد اللاجئون الشيعة الجدد من القوانين الأوروبية لجعل ساحات لندن وباريس منصاتٍ لإظهار سيطرتهم وخلق صورة ذهنية متطابقة مع البلدان الواقعة تحت النفوذ الإيراني، وأصبحت العواصم الأوروبية مراكزاً للتنظيم الشيعي، حيث تأسست مراكز دينية وبحثية وتعليمية بإشراف مرجعيات شيعية مهمة، من أبرزها حزب “الدعوة” الاسلامي العراقي الذي اعتبر معارضًا لحكم “صدام حسين” وأصبح قوة سياسية هامة في العراق بعد الاجتياح الأميركي، اختار بريطانيا كمركز له لمعارضة النظام من الخارج.

فعلى سبيل المثال ترتكز الجالية الشيعية في بلجيكا على نموذج وجود مميز في أوروبا، حيث يتراوح نسبة المسلمين بين 600 ألف و800 ألف شخص، ممثلة حوالي 25% من سكان العاصمة بروكسل، وتمركزت الجالية الشيعية بشكل أساسي في بروكسل وضواحيها، ولعبت المساجد والحسينيات دورًا بارزًا في نشر التشيع، حيث تأسست مساجد شيعية بمشاركة مختلفة من الجاليات العراقية والتركية والباكستانية، ويحدث هذا الأمر عبر الاستفادة الحاصلة من تعامل بلجيكا مع الإسلام مقارنة بدول أوروبية أخرى، حيث شاركت في تنظيم شؤون الديانة الإسلامية بشكل رسمي منذ البداية، مما أثار منافسة بين هيئات إسلامية التي تسعى للحصول على دعم الحكومة والموارد المالية.

هذا التنافس انعكس في حادثة حرق المسجد الشيعي في بلجيكا عام 2012، ضمن ارتفاع حدة التوترات المذهبية المتصاعدة في أوروبا حيث تم اتهام سلفيين بحرق المسجد الذي أسفر عن مقتل الإمام، وأثارت الحادثة إلى جانب إغلاق مركز شيعي في فرنسا بسبب اشتباه في وجود أسلحة للدفاع عن المركز من هجمات محتملة، الانتباه إلى التوترات المذهبية.

تزايدت هذه التوترات في بريطانيا بين الشيعة والسنة نتيجة الصراع في سوريا والتداعيات السياسية والأيديولوجية المصاحبة له، وتتوج هذا الصراع بظهور نمط من التشيع يعرف بـ “التشيع البريطاني”، حيث يتركز على نشر رسائل الكراهية تجاه السنة ويُعتبر رجل الدين الشيعي “ياسر الحبيب” أحد أبرز دعاة التشيع البريطاني ويُتهم بترويج هذه الرسائل، كما تسبب التركيز على الخلافات المذهبية خلال أزمة سوريا في تحويل الانتباه من مكافحة الإسلاموفوبيا إلى التوترات الداخلية بين المسلمين في أوروبا، إلى جانب تصوير ” السنة ” كأساسٍ للتوجه العنفي المسلح، دون أن يتم التطرق لكافة العمليات العسكرية التي تقوم بها ميليشيات مذهبية ممتدة من أفغانستان حتى جنوب سوريا، وينتشر لها مناصرون مجاهرون بتوجهاتهم في عموم البلدان الأوربية وأمريكا، وفي هذا الاتجاه تظهر العديد من المؤسسات النشطة في عدة دولٍ منها:

في بريطانيا: تقوم المراكز الإسلامية والجوامع والحسينيات كل عام، برعاية تجمعات ضخمة في عاشوراء، حيث تقام مجالس العزاء والمواكب الحسينية بمشاركة جاليات عربية واسلامية من العراق ولبنان والبحرين والسعودية وسوريا وإيران وباكستان وأفغانستان وتركيا والهند، كما يشترك فيها مواطنون أوروبيون من أديان ومذاهب مختلفة.

وفي ألمانيا: “تُمثل الرابطة الإسلامية – (Islamische Gemeinschaft der Schiitischen Gemeinden Deutschlands) وتعرف اختصاراً ب(IGS)كأبرز الكيانات الشيعية المتهمة بكونها ذراعا توسعية لإيران في ألمانيا، وتأسست في 7 مارس (آذار) 2009، لتكون مجمعًا لأغلب الكيانات الشيعية بألمانيا”، إلى جانب المركز الإسلامي في هامبورغ (IZH)، كما ينشط مركز “الحسنين” في برلين في تنظيم احتفالات سنوية في ذكرى عاشوراء بحضور عدد غفير من الشيعة وغير الشيعة وفي مدن أخرى.

وكذلك في السويد والدانمارك والنرويج وبلجيكا (مركز الإمام الرضا في بروكسل، مركز الغري في أنتويرب، حسينية الزهراء في أنتويرب)، وفرنسا (مؤسسة الإمام الخوئي الثقافية، جمعية الغدير الخيرية، مركز السيدة زينب)، وسويسرا وهولندا والولايات المتحدة وغيرها، وفي دول أخرى مثل تركيا وباكستان وأفغانستان والهند ونيجيريا في افريقيا.

وتوظف إيران هذه المؤسسات والمناسبات الدينية في إظهار نفسها راعية للعالم الإسلامي وتنتدب نفسها لمهمة تعريف العالم على الإسلام وفق المذهب الشيعي من خلال إقامة طقوس عاشوراء سنويا في عدد من دول العالم، أبرزها بريطانيا ودول أوروبية أخرى وفي عدد من المدن الامريكية والدول الافريقية. 

الولايات المتحدة وتعزيز الدور الإيراني

ساهمت عدة تدابير وإجراءات من قبل الولايات المتحدة فيما يخص سياساتها في الشرق الأوسط في زيادة نفوذ إيران الإقليمي والعالمي، وبالأخص في مرحلة ما بعد حرب أفغانستان حيث احتاجت الولايات المتحدة للتهدئة مع الدول المجاورة لأفغانستان بعد الغزو، وخلال عامين بدأت الولايات المتحدة عملية احتلال العراق، وهي أيضاً دفعتها للتهادن مع القوى الإقليمية وبالأخص إيران، وفي ظل توجه واشنطن لحل منظومة حزب البعث بشكل كامل، تم فتح المجال للأحزاب والتنظيمات الشيعية العراقية المرتبطة بإيران والمتخذة منها مقراً بالعودة والانخراط في العملية السياسية وبناء الجيش بشكل كبير، وفي وقتٍ تحول الاحتلال الأمريكي لدافعٍ لدى المجتمع السني لرفضه ومقاومته في ظل سيطرة التيارات الشيعية على العراق بشكلٍ كامل، كانت إيران ترفع من سوية ربط المنظومة العراقية الجديدة بمؤسساتها بالأخص عن طريق قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني. هذه البوابة الشاسعة لدخول إيران للعراق وتأمينها لاتصال جغرافي مع سوريا ولبنان خلال فترة أقل من 8 سنوات من احتلال بغداد، وترافقت هذه الفرصة بالنسبة لإيران مع انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في عملية معقدة لحل الملف النووي الإيراني، والتي وصلت لاتفاق 5+1، عام 2015. مثلت الأعوام من 2003 حتى 2015، بوابة كبيرة لتوسيع إيران نفوذها الجيوستراتيجي في المنطقة، سواءً كما ذكرنا عبر ملء الفراغ الناشئ عن انهيار المنظومة العراقية الأمنية أو لاحقاً من الانخراط بملف المفاوضات النووية، والتي يتلقى الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما العديد من الانتقادات على سياساته في الشرق الأوسط، والتي ساهمت في تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة، وبالأخص الاتفاق النووي الإيراني، والذي يعتبره أوباما جزءًا رئيسيًا من الإرث الذي تركه خلفه في البيت الأبيض بعد 8 سنوات من الحكم. حيث دفع الاتفاق لتقليص آمال الشعوب في تحقيق الديمقراطية في الشرق الأوسط مع بداية الربيع العربي أواخر 2010، عندما ووجهت بالحرب في سوريا، والأزمة في اليمن، والانقلاب في مصر، وفشل أوباما في التراجع عن دعم ثورة الإيرانيين فيما تسمى بالحركة الخضراء 2009، وكان من بنود الاتفاق النووي 2015، العقوبات الاقتصادية عن إيران، وكذلك الإفراج عن أرصدتها المجمدة، فتمكنت طهران الوصول إلى أكثر من 100 مليار دولار من الأصول المجمدة بالخارج.

مثلت هذه الخطوات الأمريكية في تلك السنوات قمة في الفشل في مواجهة التوسع الإيراني الهائل في المنطقة، والذي توج بنفوذ مجتمعي وميليشياوي ومؤسساتي يمتد من طهران حتى اليمن. 

حرق القرآن: مدخلٌ جديد لعولمة دور الإسلام السياسي الإيراني:

يعتبر مسعى حرق القرآن الكريم حديثاً إذا ما تم الأخذ بعين الاعتبار التواتر السريع بين الحالات المباشرة التي بدأت شخصياتٌ متطرفة بمختلف دول الاتحاد الأوروبي بالإقدام عليه، وتستفيد هذه الشخصيات من القوانين الأوربية والغربية فيما يخص الحقوق الفردية وعدم التعرض لها، وفي هذا الخصوص يمكن اعتبار أكثر الحوادث التي أثارت ضجة وردود أفعال رسمية وشعبية، متمثلة بإقدام القس الأمريكي “تيري جونز” عام 2011، بحرق القرآن، أولى الانتهاكات المكتملة بهذا الخصوص، آنذاك تعرض القس وفعله من نقدٍ عالمي واسع، بدأً بالمجتمعات والدول والمنظمات المسلمة، وانتهاء بالأمم المتحدة على لسان رئيسها آنذاك “ بان كي مون” والمنظمات الدولية الأخرى.

وفي سياق ابراز إيران نفسها قائدا للعالم الإسلامي، تبنت طهران الموقف الأكثر حزما من بين الدول الإسلامية فيما يتعلق بقضية حرق القرآن الكريم في السويد لأكثر من مرة هذا العام.

واعتبر المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي ان السويد اتخذت موقفا حربيا ضد العالم الإسلامي، بعد سماحها للاجئ عراقي بتدنيس القرآن الكريم أمام السفارة الإيرانية في ستوكهولم، ما بعث برسائل للرأي العام الدولي بأن إيران تمثل العالم الإسلامي وإن رمزية اختيار هذا المكان تصب في هذا الاتجاه.

وحاولت إيران إبراز نفسها بالاهتمام المتزايد بقضايا تتعلق بالعلاقات بين المسلمين والغربيين، عبر تبني خطاب مناهض للإرهاب يقترب كثيرا من الخطاب الغربي في تحميل جماعات إسلامية سنية المسؤولية عن بعض الأعمال العنفية او الإرهابية في عواصم الدول الاوربية. ففي العام 2016، وبُعيد هجمات باريس التي استهدفت مبنى لإحدى المجلات التي نشرت رسوما مسيئة للنبي محمد، وجه علي خامنئي رسالة مباشرة خاطب فيها الشباب الغربي بأكثر من لغة، ودعا فيها الى ضرورة البحث عن حقيقة الإسلام بعيدا عمن يحاولون تشويه صورته الحقيقية، في إشارة واضحة الى مسلمين سنة هاجموا المجلة لبث رسالة واضحة بأن المذهب الشيعي هو من يمثل “حقيقة الإسلام”.

ومع ان المسلمين العرب السنة هم المعنيين أولا بقضية فلسطين وأن عموم المسلمين معنيين بقضية القدس والمسجد الأقصى، إلا أن إيران طالما استثمرت معظم الأحداث العالمية لتبني مواقف تنطلق من قناعة الإيرانيين بأنهم الأوصياء على قضايا المسلمين عامة، والقدس خاصة. ولمرات عدة أجرت قوات إيرانية مناورات عسكرية تحاكي تحرير المسجد الأقصى، ما ساهم في تعزيز رؤية طيف واسع من الشباب العربي والإسلامي السني والشيعي بتصدي إيران لقضية المسجد الأقصى دون غيرها من الدول العربية والإسلامية.

وتعزز القيادة الإيرانية من خطابها الذي يدعو الى وحدة المسلمين واستغلال مواسم الحج السنوية في توجيه رسائل تدعو إلى نبذ التفرقة ووحدة صف المسلمين باعتبار أن مكة المكرمة مكان جامع لكل المسلمين من جميع الطوائف والفرق والمذاهب والترويج لما يسميه المرشد الأعلى “النموذج الناجح من القوة والسيادة السياسية للإسلام في جمهورية إيران الإسلامية”. 

أخيراً: سياسة تصدير الثورة في ميزان استقرار وانهيار منطقة الشرق الأوسط

باتت الجمهورية الإسلامية في إيران بلا شك من أهم القوى التي تمتلك فواعل ما دون دولة في عدة دول بالشرق الأوسط وتقوم بأدوارٍ متعددة سواءً في الحكم، أو إعادة رسم التوازنات الأمنية والعسكرية، وإعادة هيكلة الأمن والسلم في منطقة الشرق الأوسط وبدرجات متفرقة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وتعتمد الأذرع الإيرانية على تبني شعارات ” محاربة القوى الأجنبية والتدخلات الخارجية”، في سبيل ترسيخ خطوات التدخل بالشؤون الداخلية لهذه الدول المستهدفة.

يمكن اعتبار حوادث حرق القرآن الكريم مؤخراً في السويد أمام السفارتين العراقية والإيرانية، إحدى بواكير بوادر التغير الحاصل في التمثيل السياسي للعالم الإسلامي، من الدول التقليدية كالخليج العربي وشمال أفريقيا وغرب آسيا، إلى تمثيل إيران والإسلام الشيعي للمسلمين عبر استهداف ممثلياتهم الدبلوماسية، والتحرك بنشاط كبير في المناسبات الشيعية أمام تراجع وتشتت لحالة التكتلات السنية.

يظهر هذا المتغير الجديد في ظل انكفاء للدول الإسلامية من محاولة المعاملة بالمثل مع طهران فيما يخص سياسة الأذرع العابرة للحدود، إلى جانب تشتت المعارضة الإيرانية الداخلية والخارجية وهو ما ظهر خلال المظاهرات التي حصلت في إيران منذ بداية العام الحالي، بين المطالبة بتغيير كامل لشكل الدولة الإيرانية لاتحاد لامركزي، أو مركزية يقودها رضا بهلوي، نجل آخر شاه لإيران، وبين هويتها الإسلامية أو الديمقراطية العلمانية.

وفي ظل وجود آلاف المنظمات والمنصات الإعلامية التابعة لإيران والتي تُدار بشكلٍ شبه مركزي فيما يخص أطروحات الإسلام السياسي الشيعي، يتحول أي حراك محليٍ راغب بالتغيير، أو أية دعواتٍ دولية لضبط منظومة الأذرع للمنظمات ما دون الدولة، مادة إعلامية قوية لدى هذه المنصات لوسمها كمحاولات لتفتيت الدولة الإيرانية الشرعية وفق المنظومة الدولية.
وانطلاقا من هذا التموضع الإيراني فإننا نشهد ردة فعل قوية من طرفها عقب أية اجتماعاتٍ، او حتى ظهورٍ اعلامي لشخصيات بارزة من المجتمعات السنية العراقية وغيرها المشتتة في دول الجوار الإيراني وفي إقليم كردستان العراق.

أعادت الحرب الدائرة على قطاع غزة التركيز على إيران وأذرعها الإقليمية، بناءً على تبنيها دور قيادة محور المقاومة، هذا المحور الذي صمت وتراجع عن الانخراط في حربٍ أعلن الثورة الإيرانية منذ 1979، إنها هدفها المقدس، ورفعت شعارات طريق القدس يمر من كربلاء، وهو ذات الطريق الذي مرَ من حلب ودمشق، وبيروت واليمن، إلا إنه لم يصل للقدس في لحظته التاريخية المنتظرة من قبل ” محور المقاومة، بل اكتفى بشعارات الدعم وإطلاق التهديدات المشروطة.

Leave a comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *